المبادرات التطوعية والنسافات الثمان

من أهم و أبرز النتائج الإيجابية في الآونة الأخير ذلك الأثر العاطفي العميق الذي زرعته في النفوس، و ذلك التحول الملموس الذي أحدثته في توجهات التفكير لدى الشعوب عامة و لدى فئة الشباب بشكل خاص. لقد أسهمت هذه الأجواء في تفجير الكثير من الطاقات الكامنة، و الكشف عن العديد من الدرر المدفونة. كما ساهم بركان العواطف الإيجابية المتدفق في تفتق الكثير من العقول الشابة المبدعة عن مبادرات تنموية و تطويرية متعددة. 


و أضحت الساحة العربية الآن تشهد زخماً إبداعيًا كبيرًا، و احتشادًا زاخرًا للكثير من المشاريع و الأفكار و المبادرات التطوعية في مجالات تعليمية و تربوية و تنموية و إعلامية و تثقيفية و بحثية و صناعية و غيرها. و قد لاقت الكثير من هذه المبادرات إقبالاً كثيفاً عليها، و التفافاً شديداً حولها من مختلف الفئات العمرية و الثقافية و المجتمعية.


هذه الحالة الصحية الإيجابية الغير مسبوقة تحتاج إلى من يقدر أهميتها، و من يحسن استغلالها، و من يسهم في توجيهها في المسارات الصحيحة قبل أن تخفت شعلة الإبداع، و قبل أن يخبو بركان العواطف، و قبل أن يعود تيار الحياة يسحب الناس إلى دواماتها اللامتناهية.


جلست مع نفسي أتأمل و أتفكر في تلك الأخطاء المتكررة التي يقع فيها المبادرون المتطوعون، و التي ربما يؤدي التمادي في الخطأ الواحد منها إلى نسف الحلم و قتل الفكرة و إحباط المبادرة في مهدها. وبعد تفكير و مدارسة لتجارب و خبرات قليلة ماضية خرجت بثمانية أخطاء نسَّافات (أي تنسف المبادرة) أسطرها هنا للتنبيه إليها و التحذير منها، و أكتفي هنا بطرح العناوين العريضة مع تعليق مختصر على كل نقطة.

أولاً: غياب الرؤية الاستراتيجية
كثير من المبادرات التطوعية تكون شرارتها الأولى وباعثها الأساسي عاطفي وجداني، فكثير من الناس قد يتأثر بمشهدٍ يراه أو بحالٍ محيطٍ يستشعره فيلتذع قلبه و يتحرق فؤاده فينبعث بدوافع عاطفية ليبادر للقيام بفعل يعاكس ذلك الشأن الذي ساءه. هذا الاندفاع العاطفي شيء إيجابي و مطلوب وضروري و لكنه غير كافٍ للنجاح و الاستمرار، إذ لابد أن تقترن العواطف المحركة و الدافعة برؤية استراتيجية موجهة و محددة لمسارات التحرك و ضابطة لبوصلة العمل. في حال غياب هذه الرؤية تجد المبادر يتحرك في اتجاهات عشوائية، و يتقلب بين الأفكار و المشاريع على غير بصيرةٍ و على غير هدى.


أي مبادرة تطوعية لابد أن تمتك رؤية واضحة، و رسالة محددة، و غايات منسجمة مع الرسالة و محققة للرؤية، و أهداف دقيقة تخدم الغايات، و استراتيجيات مناسبة لتحقيق الأهداف، و برامج و مشاريع و أنشطة نائشة عن هذا كله و متسقة مع بعضها البعض.
ليس من الضروري أن تكون هذه الرؤية تامة الوضوح أو مكتملة عند الانطلاق، و لكن ما هو ضروري هو أن يتوفر الإدراك لأهمية الوصول إلى مرحلة الوضوح من خلال مراكمة الخبرة و هضم التجارب.

ثانياً: الإخفاق في فهم طبيعة العمل التطوعي
يخلط الكثير من المبادرين بين العمل التطوعي و العمل المهني مدفوع الأجر. الإخفاق في فهم طبيعة العمل التطوعي و خصوصياته تنجم عنه الكثير من التعثرات و الأخطاء في كل مرحلة من مراحل إدارة العمل ابتداءً من وضع الخطط،  مروراً بتوظيف المتطوعين و إدارة الموارد البشرية، و انتهاءً بآليات الرقابة و المتابعة و معايير التقييم. فالعمل التطوعي يحتاج إلى عناية خاصة بطرق توظيف الأفراد، و استراتيجيات التوسع، و أدوات التحفيز، و عوامل الاستمرار. بعض النقاط التالية في المقال سوف تتناول بعضاً من هذه الخصائص.

ثالثاً: إغراء الأفكار
تتسم مرحلة اشتعال و اتقاد الشرارة الأولى لأي مبادرة تطوعية بأنها مرحلة طلاقة الأفكار، فكثير من الأفكار لمشاريع و برامج و أنشطة متميزة تتبادر إلى ذهن المبادر و تثير حماسته في تلك المرحلة.  و كثيراً ما يحدث أن يقع المبادر فريسةً لإغراء الأفكار فتراه إما أنه يبدأ بالعمل على عدد كبير من الأفكار تفوق ما يتوفر لديه من موارد،   أو أن يصبح كالذواقة يتنقل بين فكرة و فكرة و بين مشروع و مشروع يتذوقها فقط دون أن يُتِم أي منها أو أن ينجزه باتقان،  أو تجده ينشغل بمشاريع براقة و لكنها أقل أهمية و متأخرة في الأولوية عن مشاريع أخرى. كل هذه الإخفاقات في التركيز تؤدي إلى تسلل إحباط سريع في نفس المبادر، و خفوت عوامل الدفع الذاتي لديه، و نفاذ مخزون العاطفة المحركة له.

رابعاً: ارتفاع سقف التوقعات
الإنسان المبادر المتطوع تجده شديد الاقتناع بفكرته، شديد الحماسة لها، قوي العزيمة على المضي فيها، و تجد مبادرته تملأ عليه الكثير من تفكيره و عقله ووقته، و تنعكس على مجمل حياته في نهاره و ليله. هذه الحالة النفسية لمنشئ المبادرة تجعل سقف توقعاته عالياً جداً سواءً من حيث مستوى تفاعل الناس معه، أو إقبال المتطوعين على مشاريعه، أو سرعة إنجاز البرامج و الأنشطة، أو قوة عوائد و نتائج الجهد المبذول. هذا السقف العالي للتوقعات يصطدم دائماً بواقع يكون دون التوقعات بكثير في أغلب الأحيان. صحيح أن التفاؤل مطلوب و لكن الفجوة الكبيرة بين التوقعات و الواقع قد تؤدي إلى إحباطات متتالية، و قد تولد إفرازات نفسية سلبية على نفسية المبادر (انتبه هنا أن العامل النفسي من عوامل الاستمرار في العمل التطوعي و من هنا كان التركيز عليه ضرورياً).

لا بأس أن يطلق المبادر لطموحه العنان، و لكن عليه أن يجعل سقف توقعاته في مستوىً معقول، و أن يوطن نفسه على تقبل الواقع، و أن يتهيأ لكافة الاحتمالات، و أن يضع إمكانية الإخفاق في الحسبان و يستعد لها عند صياغة الخطة، و يرسم لكل إمكانية خطط بديلة و آليات استدراكية.

خامساً: شهوة التوسع و الانتشار
وهذه من الأخطاء المتكررة، فالمبادرة التطوعية تبدأ بشخص أو مجموعة صغيرة من الأشخاص، و غالباً ما تكون أول مهمة يجد قادة المبادرة أنفسهم بحاجة إلى البدء بها هي تجميع متطوعين للتفاعل مع المبادرة، و المشاركة في القيام على أنشطتها و برامجها.
الخطأ الذي يقع فيه الكثير من المبادرين هو أن شهوة التجميع و تكثير الأعداد تأخذهم بعيداً و تستنفذ الكثير من وقتهم و جهدهم، و تستنزف موارد كان من الممكن أن توجه في صميم العمل. والمشكلة الكبرى هنا هي أن هذا التجميع و التكثير للأعداد لا يكون في أكثر الأحيان نابعاً من حاجة حقيقية أفرزتها الخطة أو الرؤية الاستراتيجية، و لا يكون مرهوناً بطاقات الاستيعاب، و لا منضبطاً بمعايير انتقاء و اختيار واضحة للأفراد.

القاعدة الأساسية هي أن: سعة الانتشار لابد أن تتناسب مع طاقة الاستيعاب.  و طاقة الاستيعاب تشمل القدرة على توظيف المتطوعين، و القدرة على متابعتهم و تقييمهم، و القدرة على تحفيزهم.

سادساً: أسلوب الإدارة الأخوية
كون العمل التطوعي قائم على المبادرة الشخصية و لا تتوفر فيه أجور أو حوافز مادية عاجلة، لا يعني هذا أنه غير ملزم أو غير منضبط. من الأخطاء الكبيرة التي تقع فيها المجموعات التطوعية (التي غالباً ما تتشكل نواتها من أصدقاء أو زملاء أو أفراد تجمعهم خصائص مشتركة متعددة)  … الخطأ هو أنها تجعل قيمة الأخوة (و هي قيمة مهمة بلا شك) تعلو و تطغى و تحل محل متطلبات الإدارة السليمة الضرورية لنجاح أي عمل.


فعلى سبيل المثال تعزف الكثير من المجموعات التطوعية عن هيكلة نفسها إدراياً، أو وضع آليات للمتابعة و المحاسبة، أو مثلاً تقييد المصروفات المالية بشفافية و وفق الأصول، و غيرها الكثير.  لاشك أن حضور معاني الأخوة و المحبة و التآلف مطلوبة لاستمرارية العمل، و لكن لابد أن تأخذ متطلبات العمل الإداري حقها الكامل من الاحترام و الاتباع، و هذا لابد أن يكون واضحاً لكل الأعضاء و متفاهم عليه.

سابعاً: التقصير في التحفيز
صحيح أن الحافز الذاتي و الدافع النفسي الداخلي هو في الغالب العامل الأساس الذي يجعل المتطوع المبادر يلتحق بالعمل التطوعي ابتداءً، إلا أن مساهمة هذا الحافز في استمرارية عطاء المتطوع في المستقبل لا تتعدى النذر اليسير. كثير من قادة العمل التطوعي يفشلون في إدارك هذه الحقيقة فيقعون في خطأ التقصير في توفير قدرٍ كافٍ من الحوافز المعنوية للمتطوعين التابعين.
والحوافز تأخذ أشكال كثيرة مثل شهادات الشكر أو هدايا التكريم أو حتى مجرد ذكر الاسم و الإشادة بالعطاء أو الترقية في الهيكلية الإدارية للعمل، و غيرها الكثير من أشكال التحفيز. غياب الحوافز المعنوية عن قاموس قادة العمل التطوعي معناه أنهم سيجدون أنفسهم قريباً جداً يعملون لوحدهم!

ثامناً: الفشل في توفير عوامل الاستمرار
ما أسهل طرح المبادرات، و ما أسهل البدء بها. التحدي الأكبر و الأصعب دائماً هو الاستمرارية. مئات ألوف المبادرات تنطلق و في نفوس أصحابها براكين ثائرة من الحماسة و الحيوية، و لكنها سرعان ما تنقطع و تتوقف. السبب الأساسي في هذا هو الإخفاق في إدراك عناصر و عوامل استمرار الفكرة و الفشل في توفيرها.


فعلى سبيل المثال، العمل التطوعي الذي يستنزف مالاً لا يمكن أن يستمر بطرق صرف عشوائية من جيوب بعض أعضاء الفريق أو من جيوب قادة المبادرة، إذ لابد من توفير مصدر تمويل مستقر كاشتراكات دورية محددة للأعضاء، أو تبرعات خارجية، أو مشاريع ربحية و خلافه. و من أمثلة عناصر الاستمرارية التي تكاد تحتاجها أغلب المبادرات التطوعية: التمويل، التحفيز، الشراكات الفعالة، القدرة على استقطاب متطوعين كلما دعت الحاجة، اكتساب صفة قانونية، و غيرها الكثير.